الثلاثاء، 8 فبراير 2011

ثورة مصر: قفزة من عصر المماليك إلى 25 يناير 2011


لا شك في أن الثورة المصرية ثورة 25 يناير 2011 هي ثورة عظيمة وإن لم تكتمل بعد فصولها وتظهر نتائجها وتسلم جرتها.. ومما لا شك فيه أن مصر ما بعد ثورة 25 يناير لن تكون بالتأكيد كمصر ما قبلها، وأن القادم أفضل مما مضى.. فقد تحركت دماء كانت آسنة، واشتعلت همم كانت فاترة، وانطلقت من مكامنها طاقات أصيلة يحذوها الأمل والتصميم...لكن الذي أود أن أشير إليه في هذه الكلمات هو أن هذه الثورة ستكون الأولى -بمصر على الأقل- منذ 795 عام تقريبا -بالحساب الهجري- أي بعيد سنة 639 هـ بقليل.. حين قام الإمام العز بن عبد السلام بعرض أمراء مصر من المماليك في سوق العبيد ليفتدوا أنفسهم حتى تصح معاملاتهم بعد ما زاحموا  الناس على الحياة العامة.

وسبب ذلك هو الشبه الكبير بين قصة المماليك وقصة فريق من الضباط الأحرار الذين حكموا مصر منذ الانقلاب العسكري لسنة 1952.. فكلاهما حاد عما جُعل له..جُعل المماليك جنودا لهم مراس بالقتال لحماية البلاد في وقت استعرت عليها فيه الأطماع الأجنبية .. ولكنهم تغوّلوا وجعلوا شوكتهم العسكرية شوكة سياسية فتدخلوا في أمور البلاد والعباد وأوغلوا في الثروات ونافسوا على الممتلكات ثم زاحموا المدنيين في أسواقهم وبيعهم وشراءهم وتسابقوا على اتخاذ القصور بما فيها من أسباب البذخ والمتعة حتى ضاقت بهم الأرض وتعب منهم الناس وتحولوا من أبطال ردوا التتار في عين جالوت إلى أرذال مرسوا على طرائق الطاغوت... ثم جاء سلطان العلماء العز بن عبد السلام إلى مصر فكسر رمزيتهم وحرر الشعب نفسيا من سلطتهم..حيث جاء بهم إلى سوق العبيد ليفتدوا أنفسهم في خطوة رمزية تفيد بأن هؤلاء الامراء -مهما علوا واغتنوا- ما هم في حقيقتهم إلا خدام لمصر وأهلها.. لذلك كان أعظمهم بعد قطز وهو بيبرس الملقب بالظاهر يخشى سطوة سلطان العلماء حتى روي عنه أنه قال يوم توفي الإمام العز "الآن استقر لي ملكي" ... هذه السقطة الرمزية لحكم المماليك هي في الحقيقة غير مسبوقة ولا نظير لها .. فمتى رأينا أو سمعنا أو قرأنا عن ملوك يشترون أنفسهم في سوق العبيد مهما ثبتت حقيقة بؤس أصولهم وتواضع محاتدهم... وكم توالى على البشر من عبيد وسوقة فصاروا أمراء وسلاطين .. وكم من أنذال -نساء ورجال- ما كانوا يطمعون بأكثر من ضمان مصاريف يومهم أو شهرهم حتى مُلّكوا رقاب العباد فما مكثوا حتى داسوا عليها...ثم سقط بعضهم وأفلت الآخرون من العقاب في الدنيا .. ولكن أن يساق ملك ذاق حلاوة الملك وسلطان داعب أنمله ملامس الصولجان وهو في أوجه إلى سوق العبيد؟ إلى محكمة السوق؟ فهذا أمر عجيب غريب و ليس يشيهه (بل يتفوق عليه في الحقيقة) إلا هذه الهبة الجديدة التي سعدت بها أوصال الأمة حين أسقطت حساب الخوف من حكامها من بالها والتفتت لتراهم عرايا إلا من عارهم وجبنهم ثم أوقفتهم لتحاسبهم واحدا واحدا ..فما يكاد يسقط طاغية حتى ترى الأخر يتململ ثم يسارع إلى تقديم هبات رمزية عساها تنظلي على أعين قد انفتحت  أخيرا ولا مجال لخداعها او لسحرها..

وكذلك "الضباط الأحرار" الذين انقلبوا على حكم فاروق الفاسد .. جاءوا بما كان مطلبا لشعب مصر في التخلص من فساد نظام فاروق ومن الاستعمار الإنجليزي في آن... فما أن استتب لهم الأمر حتى توالت الاعتقالات في 1954 والمحاكمات العسكرية وأحكام الإعدام ولم يسلم من يطشهم لا شيوعيون ولا إخوان ولا غيرهم ممن جاهر برفضه ومخالفته لأمور معينة جاؤوا بها.. ثم ما لبث الألى أمموا خيرات مصر وزعموا إلغاء الطبقية التي كانت تكرسها الألقاب التي يمنحها الملك ويقوم عليها التراتب الاجتماعي من أفندية إلى باكوية وباشوية وغيرها حتى تحولوا هم بدورهم إلى عائلات تتركز فيها الثروة والسلطة مع ما منيت في عهدهم مصر من مصائب لعل خلاصتها في مصيبتين معناهما هو العكس  تماما لمعنى مصر: الفقر ومصر في تاريخها بلد الثروة. والهزيمة الحضارية بعد الهزائم العسكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية إذ مصر هي صانعة الانتصارات وقائدة الركب الحضاري للأمة منذ قرون...حتى إذا أناخت السلطة عند مبارك بعد مقتل السادات أسن ماء مصر وفاحت روائحه وصارت  تزكم فلا تطاق ..  وتفاقم القمع واستفحل الاستخفاف بالناس وبمشاعرهم (وما تعليق المهزوز المهزوم المشؤوم أبو الغيط عن إمكانية انتقال عدوى الثورة التونسية إلى مصر بأنها كلام فارغ ..إلا دليل على ذلك) قام في يوم 25 يناير شباب حر لم تلعب بعقله الإيديولوجيات ولم تطمس عليه بتعصبها الانتماءات فلم ينادي برفع حالة الطوارئ فقط ولم ينادي بالإصلاحات ولا بتوسيع هامش الحريات ولم يلهج بشعارات تحتاج إلى ندوات كبار الأساتذة لشرح مستغلقاتها .. ولكنهم قالوها بكل قوة وبساطة وهم قلة في العدد ما يزالون: الشعب يريد إسقاط النظام... هكذا استفاق فقهاء القانون وأساطين السياسة والإعلام على حقيقة مرة وهي أنهم كانوا إما جبناء أو ضيقي الأفق أو لامهتمين إلا بمصالحهم الحزبية والإيديولوجية أو الشخصية أو شيء من هذا كله... فطاحت عباراتهم وتحولوا في أفضل الاحوال من زعماء سياسيين وقادة معارضة إلى سعاة بريد بين الشباب الحر الثائر وبين رموز النظام الفاسد ... وجلسوا تلاميذ صغارا إلى طاولة الشعب ليصحح لهم تفاصيل مفاوضاتهم ويلقنهم ما يقال وما لا يقال...

وهكذا تم عرض المماليك الجدد على محاكم أسواق القنوات الإعلامية المرئية والمكتوبة والرقمية مفضوحين على رؤوس الأشهاد فاقدين للشرعية.. يكابد حلفاؤهم حلول التنصل منهم .. وحرج الموالاة لهم ..وهكذا أمكننا القول: لقد تمت الصفقة بنجاح بلا شك .. بقي على أئمة العز أن يفعلوا ما لم يفعله الإمام العز وهو أن يسقطوا العبيد فعلا وأن يحلوا محلهم .. مع اعتذارنا للمماليك القدامى هازمي التتار على تشبيهنا لهم بالمماليك الجدد خادمي إسرئيل ومن معها أو وراءها من أباطرة الشرق حينا والغرب حينا ..

فلتكن ثورة 25 يناير ثورة أولى غير ذات نظير، تنسينا ما سمي بثورة يوليو التي إنما هي انقلاب لا ثورة.. و لتلهمنا ثورات أخرى في بلداننا على كل صعيد نتهيأ بها لغد لا مجال فيه للهزل ولا للضعف أو للتبعية.