الأحد، 2 يناير 2011

العمل السياسي بين المبدئية والبراغماتية

إن العمل السياسي حركة في الواقع تتوخى تغييره وفق منظومة فكرية تشمل كل ما يتصل بمصالح الأفراد و المجتمع المادية و المعنوية. ولذلك فإنه متصل بما هو فكري نظري مفاهيمي اتصاله بما هو إجرائي عملي تطبيقي. وله تجلي معنوي أخلاقي مع تجليه المادي التداولي. و عليه فإن الحكم على عمل سياسي ما أو تحليله بل فهمه لا يكون بالنظر إلى ما أنجزه هذا العمل أو النشاط في دنى الماديات وعوالم المحسوسات، أو بالإغراق في أسئلته التقنية والإدارية، بل بالموازاة مع ذلك كله، لابد من النظر في المعاني التي يستبطنها هذا العمل والتصورات التي يترجمها و الرموز التي يعكسها من حيث قربها أو بعدها، توافقها أو تناقضها مع مرجعيته. ثم من جانب آخر لابد من النظر في هذا المنتج أو المنجز باعتباره كائنا اجتماعيا، فينظر إلى حمولته الثقافية ومآلاته بالنسبة إلى ذات المرجعية الآنفة الذكر، وعلى هذا ينبني نقد العمل تقييما وتقويما.

وهذا أمر في غاية الدقة كما أنه في غاية الأهمية. وهو أمر محله مستقبل ذلكم العمل أو النشاط وليس فقط راهنه، ومآلاته ونهاياته وليس فقط أوصافه وأحواله..فهو أمر للفكر والنظر قبل أن يكون للتطبيق والعمل. ولا يجوز أن ينفصل انفصالا عنهما - أي عن التطبيق والعمل - بل هو مواز لهما بما يضمن له صحيح العلم وحسن الفهم وصواب الحكم.

إن العمل السياسي باعتبار ما سبق، لهو عمل وطيد العلاقة بالعمل الثقافي – إن لم نقل هو عمل ثقافي بالأساس – ولكنه متميز منه تميز الخاص من العام والفرع من الأصل. وهو تميز لا يفقده جوهره الثقافي بل يزيد عليه زيادة لا تخل بأصله ولا تقدح في وصله به. وعليه فمتى امتاز العمل السياسي من أصله الثقافي، أوشك أن يقع في محظور فقدان مصداقيته والانحدار إلى انعدام فاعليته وربما إلى التحول من قصد الإصلاح إلى تبييت الإفساد ومن جلب النفع إلى نشر الضر. فيصير العمل السياسي ضد الأمة بدل أن يكون لها، وسائرا في عكس سبيلها بدل أن يسير في ركابها. ومتى وعى هذا صار من الأهمية بمكان صيانة هذه العلاقة أن تنحل في خضم المدافعات أو تضمحل مع طول المعافسات. وليس يتم ذلك إلا بتحرير الأصول (وهي عندنا هنا الأصول الثقافية للعمل السياسي) ومقاربة صور تجلياتها في الفروع ( وهي عندنا هنا الممارسة السياسية). فما هي خصائص العمل الثقافي؟ وكيف يفيض بها على مشتقه السياسي؟

إن الثقافة فضاء متعدد الأبعاد، فليس يحد مفهومها تعريف واحد. ولكنها تحد وتعرف بحسب زاوية النظر وسياق التناول. ولعل التعريف الأنتروبولوجي أقرب إلى سؤلنا فنعرفها بأنها هي ذلك الحس المشترك أو الذوق العام الذي يكون مجموع القيم والمثل والرموز التي يتواضع عليها أفراد مجتمع ما والتي تحدد هوية ذلك المجتمع أو الأمة مصورة لماضيه و مفسرة لحاضره و ملهمة لمستقبله. وإلى هذه الثقافة يكون مرد النجاحات أو الإخفاقات، ومن خلالها تفسر بدرجة أولى. وهكذا يتحدد العمل الثقافي باعتبار المقصد فيكون إصلاحا أو إشهادا. وقد يتحدد باعتبارالوسيلة فيكون تربية أو تأطيرا. وقد يتحدد باعتبار الموضوع فيكون إعدادا أو إمدادا و قد يتحدد باعتبار الدور فيكون فعلا أو تفعيلا أو انفعالا

أ - العمل السياسي باعتبار المقصد الثقافي:

إن واقع المجتمع - ثقافيا - إما انسجام بين الهوية والواقع أوتنافر بينهما (وبين هذين المقامين مقامات فرعية لا اعتبار لها بالنظر إلى الأصلين الذين عنهما تتفرع). فتستدعي حالة التنافر عملا تقريبيا يزيل أسباب التنافر ويراكم دواعي الانسجام، (ومرد هذه الأسباب جملة إلى الأسس التي تنبني عليها تلك الهوية أو التي ينبني عليها ذلك الواقع أو هما معا) ويؤدي هذا العمل إلى صلاح ثقافي فيسمى إصلاحا ثقافيا.
وتستدعي حالة الانسجام صيانة تبقي عليها وتحفظها أن تحل ربطتها وتهتك مظلتها، وتزكية تزيد في قوتها بتعريفها وبيان معالمها لغير أصحابها. ويؤدي هذا العمل إلى شهود ثقافي فيسمى إشهادا ثقافيا.

ولما كان العمل السياسي بمقتضى اشتقاقه من العمل الثقافي منضبطا لخصائصه لزمه الوفاء لمقاصده، فلزمه مقصد الإصلاح و مقصد الإشهاد.

فعلى مستوى الإصلاح، يدأب النشاط السياسي على ما يجلب المصلحة للناس في معاشهم و يدرؤ المفسدة عنهم فيه. وعلى ما يحقق الصلح فيما بينهم وعلى ما يمكن من المصالحة بينهم وبين هويتهم.

وعلى مستوى الإشهاد، يحرص النشاط السياسي على توفير الشروط الضرورية لمشاهدة واقع غيره من المجتمعات تعرٌفاً وإشهادهم على واقعه تعريفاً بما يحقق المصلحة لكليهما والصلح بينهما والتصالح على حدود دنيا تكفل له عميق مشاهدة ومكين إشهاد.

وهكذا يكون العمل السياسي قاصدا الإصلاح داخليا بجلب المصلحة وتحقيق الصلح وتمكين المصالحة. ويكون قاصدا الإشهاد خارجيا بتعميق تعارفه، تعرٌُفا وتعريفا أو لنقل مشاهدةً وإشهادا. وبين قصدي الإصلاح والإشهاد علاقة تجعل من الأول سبيلا للثاني ومن هذا الأخير تمكينا للأول. فما يزال العمل الإصلاحي في ترسخ حتى يستدعي العمل الإشهادي، وما يزال العمل الإشهادي في توسع حتى يعمم العمل الإصلاحي.

ب- العمل السياسي باعتبار الوسيلة الثقافية:

يسعى العمل الثقافي – بالنظر إلى ما سبق – إلى تحقيق صلاح ثقافي يرفع التنافر بين الهوية والواقع أو لنقل بين النظر والعمل. وإلى شهود ثقافي يعمم ذلك الصلاح الثقافي ويطوره ويضمن استمراره. فهو نشاط تربوي تأطيري مهمته رفع الشبهة عن الذات وإزالة الاشتباه عن الواقع.

وهكذا ينصب العمل على تربية الفرد (أو المجتمع) بما يمنحه السكينة النفسية (أو الاستقرار الاجتماعي)، فترتفع عنه الشبه؛ وعلى تأطيره بما يحصل عنده القناعة الفكرية والدربة المنهجية (أوالانسجام والانفتاح الفكري)، فيصير قادرا على مقاربة واقعه في ضوئها وعلى تقريبها إليه، فيساهم في إزالة الاشتباه عن الواقع.

ولما كان العمل السياسي بمقتضى اشتقاقه من العمل الثقافي منضبطا لخصائصه وفيا لمقاصده، لزمه الانسجام بشكل عام معه في وسائله، فلزمه الأخذ بآليتي التربية والتأطير. إذ يفترض في العمل السياسي السعي إلى رفع الشبهة عن مشروعه بالمداومة على تبيان معالم مذهبيته وتعميق حضورها عند نشطائه ووضوحها لدى جمهوره. و يفترض أيضا العمل على إزالة الاشتباه عن واقعه بقياس ممارساته إلى شعاراته، وملاءمة أدبياته مع تحدياته.

ففي الأولى – أي رفع الشبهة – تظهر الحاجة إلى عمل تربوي معمٌَق، يحصل به الانسجام بين الفرد والمشروع، يكون الأولُ بمقتضاه رقما موجبا في المشروع السياسي، ويكون الثاني تعبيرا إيجابيا عنه. فتنتج عن هذا الفاعلية الفردية.
وفي الثانية – أي إزالة الاشتباه – تظهر الحاجة إلى نشاط تأطيري موسٌَع، يحصل به الانسجام بين المشروع والمجتمع، يكون الأول بمقتضاه جوابا شافيا عن أسئلة المجتمع في مرحلة زمنية معينة، ويكون الثاني وعاء حاضنا له. فينتج عن هذا الفاعلية الجماعية.

وهكذا لزم العملَ السياسي التعمقُ في العمل التربوي لأجل تحصيل الفاعلية الفردية، ولزمه التوسعُ في النشاط التأطيري لأجل تحصيل الفاعلية الجماعية. وبين الوسيلتين علاقة تجعل من الأولى أساسا للثانية، ومن هذه الأخيرة ترسيخا للأولى. فما يزال العمل التربوي في تعمق حتى يستدعي العمل التأطيري، وما يزال العمل التأطيري في توسع حتى يعمم العمل التربوي.

ج - العمل السياسي باعتبار الموضوع الثقافي:

يتوسل العمل الثقافي بتعميق العمل التربوي رفعا للشبهة عن الهوية، فهو يصوغ معالم الهوية في مرحلة تاريخية معينة، ويعد الفرد والمجتمع للانسجام معها.
ويتوسل بتوسيع العمل التأطيري إزالة للاشتباه عن الواقع، فهو ينظر في شؤونه المختلفة بمَد هويته إليه تقريباً، وإمداده بها مقاربةً.

وهكذا يتحدد موضوع العمل الثقافي داخليا بأنه إعداد ثقافي يرفع الشبهة ويحقق الإصلاح الثقافي؛ ويتحدد خارجيا بأنه إمداد ثقافي يزيل الاشتباه ويثمر الإشهاد الثقافي .

ولما كان العمل السياسي بمقتضى اشتقاقه من العمل الثقافي منضبطا لخصائصه وفيا لمقاصده منسجما بشكل عام معه في وسائله، لزمه الاتساق مع موضوعاته، فلزمه موضوع الإعداد و موضوع الإمداد.

  1. على مستوى الإعداد:

نجد العمل السياسي ملزما بالإجابة عن إشكالات الفرد والمجتمع في واقعه وطرح البدائل بما لايتناقض مع مقصده الإصلاحي وسعيه إلى رفع الشبه المرتكسة به أو القاطعة له عن تحقيق هذا المقصد الداخلي الأساس. فيتحرك الناشط السياسي في مجال يحكمه مقصد الإصلاح وتضبطه الآلية التربوية المعمقة لهوية مشروعه، ثم بعد ذلك تأتي الإكراهات التي يتعامل معها بقدرها مستوفيا الشرطين السابقين.

  1. على مستوى الإمداد:

نجد العمل السياسي ملزما بمشاهدة واقع غيره وإشهاده على واقعه بما يسمو إلى مستوى مقصده الاشهادي وسعيه لرفع الاشتباه عن معرفته بغيره ومعرفة غيره به. فيتحرك الناشط السياسي في فضاء خارجي يلهمه مقصده الإشهادي وتغذيه الآلية التأطيرية المعممة لهوية مشروعه؛ ثم تأتي بعد ذلك الموانع التي يتعامل معها بقدرها مستوفيا الشرطين السابقين.

وهكذا فإن العمل السياسي إعدادٌ للفرد و المجتمع لأجل تحقيق التلاحم بينهما وبين مشروعه، وإمدادٌ لغير مجتمعه بتمديد مشروعه إليه ومده به لأجل تحقيق التكامل بين مشروعه ومشاريع غيره. وبين الموضوعين علاقة تجعل من الأول تأسيسا للثاني ومن الثاني تكميلا للأول، فما يزال الإعداد مثمرا للتلاحم بين المشروع السياسي وبيئته حتى يرقى به إلى مستوى إمداد غيره به. وما يزال الإمداد مثمرا للتكامل بين المشروع السياسي وبين مشاريع الآخرين حتى يتطلب مزيد إعداد لنفسه في بيئته.

د- العمل السياسي باعتبار الدور الثقافي:

يدور العمل الثقافي على فئات رئيسة ثلاث (أشخاصا كانوا أو مؤسسات) :

    1. منتجو المضمون الثقافي أو قل أصحاب الدعوة: وهم الذين ينتجون الخطاب الثقافي أو المادة الثقافية اللذين بهما تنهض الدعوة. فهم المحررون لمضامينها، المهندسون لمعالمها، الواضعون لمبادئها. فلنطلق على هذا الدور الفعل الثقافي.

    1. مروجو المضمون الثقافي أو قل الدعاة: وهم الذين ينهضون بالدعوةالثقافية، المنفذون لإجرائياتها، الساعون إلى تحقيق مقاصدها إصلاحا أو إشهادا، وتنزيل وسائلها تربية أوتأطيرا، وتمثل موضوعاتها إعدادا أو إمدادا. فلنطلق على هذا الدور التفعيل الثقافي.

    1. مستهلكو المضمون الثقافي أو قل محل الدعوة: وهم المعنيون بمضامين الدعوة، المتحققة فيهم مقاصدها، المتنزلة لهم وسائلها، المتوجهة إليهم موضوعاتها. فلنطلق على هذا الدور الانفعال الثقافي
ولما كان العمل السياسي بمقتضى اشتقاقه من العمل الثقافي منضبطا لخصائصه وفيا لمقاصده منسجما معه في وسائله متسقا مع موضوعاته، لزمه استيعاب أدواره. وهكذا لزمنا القول بأن العمل السياسي مستوعب للفعل الثقافي والتفعيل الثقافي والانفعال الثقافي، أو قل – اعتبارا لخصوصية المجال – الفعل السياسي والتفعيل السياسي والانفعال السياسي.
الفعل السياسي صياغةً وصناعةً:

إن العمل السياسي تجسيد لرؤية وخيار ما في واقع الناس من خلال تدافع يحضر هذه الرؤية/الخيار فيه ويستحضر الآخر الذي يتقاطع أو يتوازى مع هذه الرؤية/الخيار في إطاره.

وليس الفعل السياسي إلا عملية التجسيد التي تصوغ – نظريا – من تلك الرؤية خطابا وموقفا، وتصنع منها – عمليا – قرارات ومبادرات. وهكذا يكون أي فصل للنظر في وقائع حدث سياسي ما عن النظر في خطابيته أو الرؤية المؤطرة له إفسادا لذلكم النظر. كما أن أي فصل للعمل في ظروف نازلة سياسية معينة عن العمل بمقتضى خطابيتها أو الرؤية المؤطرة لها إفساد لذلكم العمل.

    1. التفعيل السياسي مسايسة ومنافسة:

يتحرك الناشط السياسي في واقع تتقاسمه بالنظر إلى دوره فئتان من الناس. فئة يعتبرها محل دعوته، وهي التي يتوجه إليها بمشروعه بسطا لموضوعاته وتنزيلا لوسائله واستلهاما لمقاصده، فهو يسلك معها سبيل التقرب منها بتقريب مشروعه إليها وتقريبها منه بمقاربة واقعها على ضوء مشروعه. وهذا ما يمكن أن نطلق عليه آلية المسايسة تقريبا ومقاربة.

وفئة يجدها موضوعا لمنازعته، وهي التي تنازعه وجوده إعطابا أو استقطابا. فالإعطاب إما في مقاصد دعوته تحويرا لها أو تحويلا له عنها، لأنه متى حصل له ذلك فَقَدَ هويتَه فاستحال مشروعا آخر وهذا غاية الفشل وقمة الخسران1. وقد يكون الإعطاب في وسائله فيصبح عاجزا عن درك غايته وبلوغ مرامه، فيصير أمره إلى الاندراس لانقصاف عدته. وقد يكون الإعطاب في مواضيعه فتشتبه عليه السبل وتتشعب به المسالك فلا يبلغ مراده لما يكون من طول أمده وتيهه. أما الاستقطاب فهو الحيلولة بين دعوته ومحلها أن يقرٌبها إليه ( مما يؤدي إلى عزله عن الأمة ) أو أن يقارب واقعه في ضوءها (مما يؤدي إلى عزل الأمة عنه). فاستوجب هذا كله تحصين ذاته أن تطاله آلية الإعطاب في أحد مستوياتها، وكذا تحسين أدواته أن تطاله آلية الاستقطاب (عزلا له أو عزلا لمحله). وهذا هو ما يمكن أن نطلق عليه آلية المنافسة تحصينا للذات وتحسينا للأدوات.

    1. الانفعال السياسي ولاء وبراء:

لا معنى لوجود دعوة وخطاب في مجتمع ما إن لم تنطلق هذه الدعوة من إعلان ولائها لنمط يميزها في مجالها و برائها من أنماط تناقض نمطها، كما أنه لا معنى لبقائها إن لم تحصل ولاء لنمطها في محلها وبراء له من نقائضها. وليس المقصود بالانفعال السياسي إلا هذا المعنى الأخير الذي يعطي لبقاء دعوة ما أو خطاب أو مشروع في المجتمع مبرره ومعناه2. ولا يكون هذا الدور فاعلا إلا إذا كان ما سبقه من أدوار فاعلا أيضا. كما أن فاعليته شرط أساسي في ارتقاء الدعوة (أو المشروع السياسي) مدارج وصولها إلى غاياتها وتحقيقها لمقاصدها. فبه تتحدد المراحل التي تجتازها الدعوة والمستويات التي تعمل عليها تربية وإعدادا و إصلاحا، أو تأطيرا وإمدادا وإشهادا.

وتجدر هنا الإشارة إلى أن أي خلل في الأركان السالفة الذكر مقاصدا أو وسائلا أو موضوعات لا بد منعكس على هذا الدور تمييعا للولاء أوتسطيحا للبراء. كما أن أي تهاون في الدورين السابقين لا بد مفض إلى الشيء نفسه. وهو ما يدفع بنا إلى القول بأن هذا الدور على كونه خارجا من دائرة السيطرة المباشرة للدعوة أو المشروع السياسي (حيث جاء بصيغة المطاوعة الخارجية لآليات العمل الداخلية) إلا أنه كالمرآة تنعكس عليها مصداقية الدعوة وفاعليتها، وهما الشرطان الأساسيان اللذان إذا ارتفع أحدهما (المصداقية) فقدت مبرر وجودها، وإذا ارتفع الآخر (الفاعلية) فقدت معنى بقائها واستمرارها.

وهكذا فإن العمل السياسي مستوعب لأدوار أصله الثقافي، فهو فعل سياسي صياغة وصناعة، وتفعيل سياسي مسايسة ومنافسة، وانفعال سياسي ولاء وبراء. بقي أن نشير إلى أنه إذا كان دور الفعل السياسي هو البناء، ودور الانفعال السياسي هو تحيص الولاء من البراء، فإن دور التفعيل السياسي أن يكون كالوجاء لكل ذلك، إذ في سياقه تكون الإكراهات لمحض الخصوصية، وعليه ففي إطاره أيضا وجب التسديد والترشيد لئلا ينجر العمل إلى مناقضة ذاته أو الاسفاف بمسؤولياته.

خلاصة:

وفي الأخير، وقد تم لنا عرض خصائص العمل الثقافي كما ظهرت لنا، وعرضنا كيفية فيضها على العمل السياسي بمقتضى ادعائنا لاشتقاقيته من العمل الثقافي، وأشرنا إلى آفات مناقضة العمل السياسي لأصوله الثقافية وإن نحن اعترفنا بخصوصية المجال السياسي وما تقتضيه هذه الخصوصية من زيادات اشترطنا فيها عدم الإخلال بالأصول أو إرباك طريق الوصول أو تفويت المقصد المأمول، وختمنا بالأدوار كيف نراها تتوزع، بقي أن نشير في عجالة إلى ما يهمنا من هذا في العمل السياسي الإسلامي.

فالدعوة الإسلامية مذ قامت ما توخت غير مصالح العباد في المعاش و المعاد، وما فهمت الإسلام إلا منهجا للحياة كاملا شاملا مصداقا لقوله تعالى : "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين" الآية3. فهي في سعيها لغاياتها ومعافستها لواقع الناس لا بد محتالة لنفسها قصد إصلاح فاسدهم و تقويم معوجهم بأن تمتاح من محيطحها هذا الذي تتحرك فيه ما من شانه أن يقرب لها النفوس و يقارب بين السائد الكائن وبين المبتغى المنشود..فتسلك لذلك سبل التواصل والتحاور تقريبا بالتربية و مقاربة بالتأطير متوسلة بكل ما من شأنه أن يفتح لها مجال مزيد مقاربة ومزيد تقريب.

وليس هذا العمل الدعوي في حقيقته سوى عمل ثقافي ساع إلى تحويل وجهة مجتمع من إعراض عن الله أو غفلة إلى إقبال عليه وذكر واستحضار له على مستوى الفرد ومستوى المجتمع.

والدعوة الإسلامية المعصرة في سيرها نحو غاياتها، قد اختطت لنفسها خططا جرت فيها تخصصاتها، كالروافد والجداول على النهر الواحد. ولربما عظم الرافد4 بما يظهره بمظهر النهر المستقل عن أصله ولكن العبرة لا تكون بعرضه ولا بطوله ولا بقوة جريانه بل قبل ذلك بقوة منبعه ومدى اتصاله به فإنه إن ضعف هذا أوشك النهر أن يخف جريانه أو يتوقف بعد مراحل تأتي في الطريق أو ظهر عجزه عن التماسك نهرا دافقا عند أول عقبة كؤود تعترض مسيرته.

وعليه، فلا بد من العمل على ضمان اتصال الفرع بالأصل، وههنا السياسة بالثقافة، أو لنقل السياسة بالدعوة على اعتبار أن الدعوة عمل ثقافي واعتبار أن العمل السياسي الذي نقصده هو العمل السياسي الإسلامي.

فيصل البقالي - 2004



1 تأمل طائفة من المشاريع السياسية في عالمنا العربي على اختلاف مشاربها حال تحولها بغير ضميمة أو مبرر موضوعي عن هويتها كيف استحالت مؤسساتها إلى مقاولات براغماتية لامصداقية لها ولا منفعة ترجى منها.
2 ليس المقصود بالولاء (و كذلك البراء) معنى المصطلح العقائدي المشهور، إنما المراد به المعنى اللغوي المباشروقد فضلنا هذه الكلمة على كلمة التعاطف التي يتم تداولها في المجال السياسي لدقة الأولى وميوعة الثانية
3 سورة الأنعام الآية 162
4 القصد هنا مؤسسات العمل الحركي عموما و السياسي خصوصا
* تم الاستفادة من المراجع التالية:
- الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري – د. طه عبد الرحمن
- حوارات للمستقبل – د. طه عبد الرحمن
- مشكلة الثقافة – مالك بن نبي
- بين الرشاد والتيه – مالك بن نبي
- ثقافتنا في ضوء التاريخ – د. عبد الله العروي