السبت، 1 يناير 2011

تأملات على طريق الفعالية الثقافية في العمل الدعوي والإشعاعي

  • العمل الإشعاعي* (أو قل الدعوي) والعمل الثقافي:

إن صناعة الثقافة لا تقل في أهميتها عن أي صناعة ضرورية لنهوض الأوطان وازدهارها. ذلك أن الثقافة هي المفتاح المفضي إلى عقول الناس وقلوبهم إذ لا سبيل إلى تغيير واقعهم إلا بتغيير سلوكهم ولا سبيل إلى هذا من طريق هاتيك العقول والقلوب.

وهل صنيع الثقافة في الناس إلا صنيع عامل الفخار بالطين أو النحات بالصلصال؟ فبصنعته يخرج من الحمإ المسنون أدوات تنفع الناس وأشكالا تسر الناظرين، حتى إذا شاهت له الصنعة أو ساء منه القصد كان نتاجه عكس ما يرجى تماما.

وكذلك أمر الثقافة حين يعي دورها رائمٌ للتغيير..فهو يركبها ويرتكب من خلالها ما مؤداه إلى الغرض الذي يريد. وانظر إلى قصص التغيير الحضارية الكبرى في التاريخ أيا كانت مشاربها ومقاصدها، وعلى اختلاف مواردها ومصادرها، ما رفدها؟ وما سندها؟ تجد العنصر الثقافي متربعا عن وعي أو عن غير وعي على رأس أولويات فعل التغيير... وانظر إلى حركات الإصلاح (والإفساد أيضا) فإنها لم تعرف نجاحاتها المقدرة إلا بقدر نجاحها في تغيير القلوب والعقول (الثقافات) من خلال نحتها ناجحةً لمفاهيم قادرة على خلق سياقات جديدة. بل انظر إلى المقاربات الحديثة لعمليات التسويق كيف حولت الشركات العملاقة - والتي هي في نهاية المطاف مؤسسات ربحية لا التفات لها إلى غير الربح – إلى عناصر فاعلة ومتفاعلة مع الشأن الثقافي علما منها وإيمانا بأن الاستهلاك إذا كان تلبية للحاجيات في مستواه الأدنى فهو ترجمة للقناعات وأنماط العيش فيما فوقه.

لقد عرف الاستعمار الفرنسي بأنه استعمار ثقافي بالأساس (ويصدق هذا على كثير من "الاستعمارات المعاصرة" إلا أنه على هذا الأخير أصدق). فنجد في البلدان التي استقلت عن فرنسا بعد استعمارها نوعا من العاطفة المشبوبة إلى الثقافة الفرنسية قل نظيرها في البلدان التي عرفت غير هذا الاستعمار.. لقد عملت فرنسا بالموازاة مع استغلال الخيرات والامساك بالمقدرات على مخامرة النفوس لتصنع منها – بعد جلائها – حليفا على الصعيد الثقافي قبل كل شيء "فالثقافة هي ما يتبقى بعد نسيان كل شيء"..وانظر معي أخي الكريم بعد هذا إلى مختلف قصص الاستعمار في تاريخ البشرية، متى ما أهمل المستعمر هذا الجانب أسرع به الجلاء وتحكم بعد الجلاء معه العداء وصار ممرع الأمس بلقعا.

ولقد عرفت أرض المسلمين صنوفا من البلاءات كان من أنكاها بلاء التتار الغاشم الكاسح، فكيف أفضى بهم الأمر؟ لقد انتهوا إلى الجلاء -وهذا أمر طبيعي- ولكنه كان جلاء اجتثاثيا إذ لم يعد لهم من موطئ قدم، بل – وهذا هو الغريب في الأمر – انتهى الأمر بأكثرهم إلى الانغماس في حضارة أنَّت تحت سنابك خيلهم ورجلهم فأسلم منهم من أسلم وتعرب من تعرب ثم لم يعد لهم أثر أو حضور أمة كانت غازية منتصرة... إذ لم يكن التتار غزوا حضاريا، بل كان همجا هامجا...

ولقد أدرك "سادة العالم" هذه الحقائق إدراكا بعيد المدى فتوالت التنظيرات من قبيل نهاية التاريخ لفوكوياما وصدام الحضارات لهنتنتون.. بل لقد روي عن هتلر أنه قال في معرض القول عن تأثير الفن السينمائي1:
"بودي لو أنتج فيلما كشريط بوتمكين..إذن لجعلت العالم نازيا"
فعلم من علم أن السبيل الأوحد إلى البقاء على الأرض هو البقاء في النفوس.

إننا في مرحلتنا الحضارية الشديدة الحساسية لأولى الناس بهذا الوعي..وعي يلفتنا إلى إيجاد دور ثقافي لنا مأصول فيكون لنا جواب على أسئلة زماننا إذ "إن لكل زمان أسئلته ولا تستحق مجموعة من الناس لقب أمة إلا إذا ارتقت بجوابها عن أسئلة زمانها إلى مرتبة الاستقلال به"2. فما هي خطواتنا إلى الخروج من هذه الوهدة؟ والنهوض الحق بما يقيم لنا شأننا الذي يليق بنا بين الأمم؟

لأجل هذا وجب علينا أن ننظر في مفهوم العمل الثقافي أركانا ومقاصد وخصائص وكيف تنحفظ هذه الأركان والمقاصد والخصائص في العمل الدعوي على اعتبار زعمنا بأن هذا الأخير إنما هو عمل ثقافي ينضبط لما ينضبط به العمل الثقافي ويجري عليه ما يجري عليه.

إن كل حركة تغيير أو إصلاح إنما هي دعوة متحركة أو حركة دعوية. هي دعوة إلى أفكار ومفاهيم و نظم تتمثل التغيير أو الإصلاح المزعوم. والدعوة كائنا ما كان نوعها وكائنة ما كانت أصولها، إنما هي عمل ثقافي بالأساس، إذا تفرعت منها أمور لا علاقة لظاهرها بالثقافة فباطنها قطعا غير منفك عنها. أليس العمل الدعوي متوخيا مقاصد يروم تحقيقها في الناس والمجتمع؟ ومستبطِناً صورا يريد تمثلها فيهما؟ ثم هو يسعى إلى إقناع مخاطَبيه بجملة مبادئ وإلى إدماجهم وتأطيرهم في مشروعه بل وجعلهم من حملة لوائه والداعين إليه؟ أو ليس يسعى إلى إنتاج قناعة وسلوك معين مخصوص يعكس توجهاته ويترجم مبادئه و يُقَرِّبُ مقاصده؟ فلما كانت الدعوة كذلك، كانت عملا ثقافيا غير ممايز لحد النشاط الثقافي في شيء بل إن مقاصدَها العامةَ مقاصدُه، وخصائصَها الكليةَ خصائصُه.

  • في المقاصد الداخلية للعمل الثقافي الدعوي:

إن العمل الثقافي كما هو واقف بصره على مقاصده يُقَرِّبُها تقريبا، تعلو به أحواله إلى سَرِيِّ بَسْطِها حيناً وتَسفُل به إلى دَنِيِّ قبضِها حينا آخر، فهو لا ينفك واقفا ذاك البصر على مجاله الذي يتحرك فيه يقاربه مقاربة، ويسعى إلى التفاعل معه إيجابيا من طريق مداومة صيانة وصله ومناوبة تشذيب ما يقطع هذا الوصال. فيحذر موانع مداومة تقريب مبادئه ومقاصده فيكون مسؤولا على إصلاح خطابه بالأساس، لأن هذا الخطاب صورته وعصارته التي يقدمها، فمتى لم ترق إلى مستوى التفاعل مع مجالها كان ذلك عنوانا على ضرورة إعادة النظر فيها بما يصلحها. والإصلاح ليس بالضرورة أن يكون لفاسد، بل إن تجديد البالي وملاءمة القديم يعتبر أيضا إصلاحا.

ثم عليه أن يحذر موانع المقاربة السديدة للأحوال والوقائع المحددة لمجال اشتغاله، وهنا تطرح عليه مسؤولية إصلاح تصوراته بالأساس، لأن تصوره عينه التي من خلالها يرى مجاله من حوله، ويده التي يجسه بها فاهما ومحللا، فمن حيث ما أسرع إليها العطب أسرع إليه بها الخطأ والغلط، فقطع بسبب من ذلك وانقطع.

وكذلك قدر العمل الدعوي أن لا يكون بدعا في خصائصه الثقافية. فهو بمقتضى هذه الخصائص، مطالب بمداومة هاته العمليات ممارسة لمهامه وصيانة لها وفق تلك الآليات الكبرى التي ذكرناها آنفا. حتى إذا تم له ذلك حقق لنفسه مُتَحَرِّكاً حُكْماً له بالصلاح، ولمجاله مُتَحَرَّكاً فيه مقاصد ما يروم من الإصلاح.

  • في المقاصد الخارجية للعمل الثقافي الدعوي:

إن هذه الأعمال التي ذكرناها وهي مداومة التقريب للمقصد والمقاربة للواقع مع مواصلة صيانتهما ورفع موانعهما والتي يتحقق لنا بها الصلاح الثقافي في مجتمع ما، لم تكن لتطلب لذاتها مثلما لا يطلب صلاح المجتمع لذاته. أما أن صلاح المجتمع لا يطلب لذاته، فمثاله الفرد الصالح في بيئته، فليس يرجى صلاحه لنفسه بل لما يرجى من تعديته الصلاح إلى محيطه نفعا وانتفاعا. وهبه صالحا في ذاته غير معد له إلى غيره، أليس هو والفاسد في نفسه الذي لا يُعَدِّي فساده إلى غيره سيان؟ فالمجتمع غاية في صلاح الفرد، وكما كان كذلك، كان الكون أو العالم أو الإنسانية غاية في صلاح المجتمع. وكما أنه لا عبرة بصلاح الفرد إن هو أسقط صلاح المجتمع من مقاصده، لم تكن بصلاح المجتمع عبرة متى ما أسقط صلاح الكون/العالم/الإنسانية من مقاصده. وكذلك أعمال الإصلاح مقاربة وتقريبا لا تطلب لذاتها. ولما تبين أن متعلقها ومناطها لا يرجى صلاحه الذي يجنيه منها لذاته، فمن باب أولى أن لا تطلب هي لذاتها، ولكن يجوز فيها ما جاز فيه، إذ ينبغي في الصلاح أن يكون ذا طبيعة متعدية لا تقوم إلا بتبييت قصد الفعل في غيرها ولا تستمر إلا بالقيام به. وهذا الفعل هو ما يمكن أن نسميه الإشهاد والمقصد الذي من وراءه الشهود.

وهكذا يسعى العمل الثقافي قياما بحق نفسه واضطلاعا بحد وظيفته أن يعدي مكتسباته في مجاله الأصل منداحا بها إلى خارج هذا المجال، باحثا لنفسه عن قنوات للمرور إلى فضاءات أوسع وأرحب، مقاربا وقائع جديدة وأحوالا، وجاهدا في تقريب ذاته (مقاصده، مبادئه..) من جديد. ثم إنه لا يسلك إلى هذا المبتغى الأرقى بأيسر مما سلك إلى ما قبله، إذ لا بد من موانع تمنعه وحواجز تحول بينه وبين مقصده، لتفرض عليه تعاطيا معها يعكس نجاحه أو إخفاقه، قدرته على المضي قدما في مشروعه أو الانتكاس به إلى الخلف.

وهو في مقاربة الواقع الجديد يحتاج إلى طويل مشاهدة له وعميق تعرف عليه. إذ به تحصل له المقدرة على إنجاز هذه المقاربة إنجازا يرقى بها إلى مرتبة السداد. حتى إذا تم له هذ التعرف وصحت عنده تلك المقاربة مر بمشروعه إلى درجة أرقى وهي درجة التقريب (بعد المقاربة) حيث يُشْهِد هذا المجال الجديد على مكتسباته عاملا على أن يحقق له مثيلها من طريق ملاءمة مقاصد هذا المجال الجديد (أو الخارجي) بمقاصده هو، ومعانقة مبادئه لمبادئه، فيتحقق له بذلك مقصده الخارجي وهو شهوده الثقافي عليه (أي على مجال الجديد أو قل المجال الخارجي).

وكما لم تصح المقاربة والتقريب الداخليان إلا بإصلاح التصور والخطاب، لم تصح المقاربة الخارجية أو قل التعرف إلا بتطويرٍ على مستوى التصور، ولم يصح التقريب الخارجي أو قل التعريف إلا بملاءمةٍ على مستوى الخطاب.

وكذلك قدر العمل الدعوي أن لا يكون بدعا في خصائصه الثقافية. فهو بمقتضى هذه الخصائص، مطالب بالانتقال إلى هاته العمليات ممارسة لمهامه وصيانة لها وفق تلك الآليات الكبرى التي ذكرناها آنفا. حتى إذا تم له ذلك حقق لنفسه مُتَحَرِّكاً حُكْماً بالشهود، ولمجاله الجديد هذا مُتَحَرَّكاً فيه مقاصد ما يروم من الإشهاد.

  • خلاصة العلاقة بين المقاصد الداخلية والخارجية للعمل الثقافي:

ثم إن مجمل الأعمال الإشهادية تعرفا وتعريفا، لا تملكان القيام بذاتهما أو الاستمرار في العطاء إلا باستدعاء متواصل لما عنه كان صدورهما. ونقصد بهذا مجمل الأعمال الإصلاحية مقاربة وتقريبا على مستوى المجال الأصل (أو قل المجال الداخلي)، مثلما لم تصح تلك العمليات الإصلاحية مقاربة وتقريبا إلا بالارتقاء إلى مستوى تعديتهما إلى مستوى مجال جديد (أو قل مجال خارجي) سواء بسواء. فيمكننا أن نقول بأن الأعمال الإصلاحية ما تزال في ترسخ حتى ترتدقي إلى الأعمال الإشهادية، وما تزال الأعمال الإشهادية في توسع حتى تستدعي مزيدا من الأعمال الإصلاحية.

ويمكن أن نلخص أفكار هذه المقالة كما يلي:

  1. يقوم العمل الثقاقي على مقاصد داخلية في مجاله الأصلي، و مقاصد خارجية في المجالات التي يتعدى إليها.
  2. إن العمل الدعوي عمل ثقافي.
  3. تتلخص المقاصد الداخلية في مطلب الصلاح من سبيل الإصلاح، وخارجيا في الشهود من طريق الإشهاد
  4. لا يمكن لعمل ثقافي دعوي أن يرقى إلى مستوى المشروعية إلا باستصحاب حالته الصلاحية واستبطان لحظته الشهودية.
  5. لا يكتمل الصلاح الثقافي إلا بممارسة آليتي المقاربة والتقريب داخل مجتمع ما (ونعتبر هذا المجتمع هو المجتمع الأصل).
  6. لا يتحقق الشهود الثقافي إلا بممارسة آليتي التعرف والتعريف خارج المجتمع الأصل.
  7. ما تزال عمليات الإصلاح مقاربة وتقريبا في ترسخ داخل مجال المجتمع الأصل حتى تتعدى خارجه إلى عمليات إشهادية تعرفا وتعريفا.
  8. ما تزال عمليات الإشهاد تعرفا وتعريفا في توسع خارج مجال "المجتمع الأصل" حتى تستدعي مزيد مقاربة وتقريب فيه.
  9. يتعدى الصلاح دوما إلى شهود، و يستند الشهود دوما إلى صلاح.
* أمست لفظة "الإشعاع" متداولة بكثرة حيث يقصد بها نشر وتعميم مضامين معينة من خلال الأنشطة الثقافية المختلفة. وإن كنا نفضل مكانها لفظة "الدعوة" لما لها من حمولة دلالية أقوى وأغنى.. ولكن آثرنا الإبقاء عليها لما تعرفه لفظة "الدعوة" من انزياحات قد تشز بنا عن المقصود وتفوت علينا حسن التواصل مع القارئ ثم أوردناه طي الكلام فيما بعد.
1 الأكاذيب الرسمية : كيف تضللنا واشنطن
2 طه عبد الرحمن - الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري